سورة النحل - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


ولما كانوا في أسفارهم واضطرابهم في المنافع بهذه الحيوانات وغيرها يقصدون أسهل الطرق وأقومها وأوصلها إلى الغرض، ومن عدل عن ذلك كان عندهم ضالاً سخيف العقل غير مستحق للعد في عداد النبلاء، نبههم على أن ما تقدم في هذه السورة قد بين الطريق الأقوم الموصل إليه سبحانه بتكفله ببيان أنه واحد قادر عالم مختار، وأنه هو المنعم، فوجب اختصاصه بالعبادة، وأخبرهم سبحانه أنه أوجب هذا البيان على نفسه فضلاً منه فقال تعالى: {وعلى} أي قد بين لكم الطريق الأمم وعلى {الله} أي الذي له الإحاطة بكل الشيء {قصد السبيل} أي بيان الطريق العدل، وعلى الله بيان الطريق الجائر حتى لا يشك في شيء منهما، فإن الطريق المعنوية كالحسية، منها مستقيم من سلكه اهتدى {ومنها جائر} من سلكه ضل عن الوصول فهلك {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم} [التوبة: 115] الآية {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15] فالآية من الاحتباك: ذكر أن عليه بيان القصد أولاً دلالة على حذف أن عليه بيان الجائر ثانياً، وذكر أن من الطرق الجائر ثانياً دلالة على حذف أن منها المستقيم أولا، وتعبير الأسلوب لبيان أن المقصود بالذات إنما هو بيان النافع، ومادة قصد تدور على العدل المواه، ومنه القصد، أي الاستقامة، واستقامة الطريق من غير تعريج، وضد الإفراط كالاقتصاد، ورجل ليس بالجسيم ولا بالضئيل، وذلك لا يكون إلا عن إرادة وتوجه، فإطلاق القصد على العزم مستقيماً كان أو جائراً، إذا قلت: قصدته- بمعنى أتيته أو أممته ونويته، من دلالة الالتزام، وكذا القصد بمعنى الكسر بأيّ وجه كان، وقيل: لا يقال: قصد، إلا إذا كان بالنصف، والقصيد: ما تم شطر أبياته، لأن ذلك أعدل حالاته، قال في القاموس: ثلاثة أبيات فصاعداً أو ستة عشر فصاعداً؛ وقال الإمام أبو الفتح عثمان بن جني في آخر كتابه المغرب في شرح القوافي: فالبيت على ثلاثة أضرب: قصير، ورمل، وزجر، فأما القصيد فالطويل التام، والبسيط التام، والكامل التام، والمديد التام، والوافر التام، والرجز التام، والخفيف التام، وهو كل ما تغنى به الركبان، ومعنى قولنا: المديد التام والوافر التام. نريد أتم ما جاء منهما في الاستعمال، أعني الضربين الأولين منهما، فأما أن يجيئا على أصل وضعهما في دائرتيهما فذلك مرفوض مطّرخ؛ والقصيد: المخ السمين أو دونه، والعظم الممخ، والناقة السمينة بها نفي، والسمين من الأسنمة- لأن بهذا الحال استقامة كل ما ذكر، وكذا القاصد: القريب، وبيننا وبين الماء ليلة قاصدة، أي هينة السير، لأنه أقرب إلى الاستقامة، ومنه قصدت كذا- إذا اعتمدته وأممته وتوجهت إليه سواء كان ذلك عدلاً أو جوراً، وانقصد الرمح- إذا انكسر على السواء، كأنه مطاوع قصده، والواحدة من تلك الكِسَر قصده بالكسر، ورمح قصد- ككتف: متكسر، والقصد- بالتحريك: العوسج- لأنه سريع التكسر، والجوع- لأن الجائع قاصد لما يأكله متوجه إليه، والقصد: مشرة العضاه تخرج في أيام الخريف لدنة تتثنى في أطراف الأغصان، وهي خوصة تخرج فيها، وفي كثير من الشجر في تلك الأيام، أو هي الأغصان، أو هي الأغصان الرطبة قبل أن تتلون وتشتد- سميت بذلك لخروجها وتوجهها إلى منظر العين، أو توجه النظر إليها للسرور بها، والقصيد: العصا- لأنها تقصد ويقصد بها، وأقصد السهم: أصاب فقتل مكانه، وأقصد فلاناً: طعنه فلم يخطئه، والحية: لدغت فقتلت- يمكن أن يكون ذلك من الاستقامة لأن قصد فاعله القتل، فكأنه استقام قصده بنفوذه، ويمكن أن يكون من السلب أي أنه أزال الاستقامة لأن من مات فقد زالت استقامة حياته، ومنه المقصد كمخرج، وهو من يمرض ويموت سريعاً، والقصيد بمعنى اليابس من اللحم- فعيل بمعنى مفعل، أي أقصد فزالت استقامته بأن هلك جفافاً يبساً.
والصدق ضد الكذب، وهو من أعدل العدل وأقوم القصد، والصدق: الشدة، إذ بها يمتحن الصادق من الكاذب، ومنه رجل صدق، أي يصدق ما يعزم عليه أو يقوله بفعله، فهو شديد العزم سديد الأمر، والصديق- كأمير: الحبيب الذي يصدق قوله في الحب بفعل، والمصادقة والصداق- بالكسر: المخالة كالتصادق، والصيدق- كصقيل: الأمين- لأنه مصدق في قوله، والملك- لأن محله يقتضي الصدق لعدم حاجته إلى الكذب، والقطب- لأنه أصدق النجوم دلالة لثباته، وقال أبو عبد الله القزاز: هو اسم للسها، وهو النجم الخفي الذي مع بنات نعش، والصدق- بالفتح: الصلب المستوي من الرماح- لأنه صدق ظن الطاعن به، وكذا من الرجال، والكامل من كل شيء، ورجل صدق اللقاء والنظر، ومصداق الشيء: ما يصدقه، وشجاع ذو مصدق- كمنبر: صادق الحملة، أي شديدها، والصدقة- محركة: ما أعطيته في ذات الله لأنها تصدق دعوى الإيمان لدلالتها على شدة العزم فيه، والصدقة- بضم الدال وسكونها: مهر المرأة لأنه يصدق العزم فيه وكسكيت: الكثير الصدق، وصدقت الله حديثاً إن لم أفعل كذا- يمين لهم، أي لا صدقت، وفعله غب صادقة، أي بعد ما تبين له الأمر، وصدقه تصديقاً- ضد كذبه، والوحشي: عدا ولم يلتفت لما حمل عليه، والمصدق- كمحدث: آخذ الصدقات، والمتصدق: معطيها.
ولما كان أكثر الخلق ضالاً، كان ربما توهم متوهم أنه خارج عن الإرادة، فنفي هذا التوهم بقوله- عطفاً على ما تقديره: فمن شاء هداه قصد السبيل، ومن شاء أسلكه الجائر، وهو قادر على ما يريد من الهداية والإضلال-: {ولو شاء} هدايتكم {لهداكم أجمعين} بخلق الهداية في قلوبكم بعد بيان الطريق القصد، ولكنه لم يشأ ذلك فجعلكم قسمين.
ولما كان ما مضى كفيلاً ببيان أنه الواحد المختار، شرع يوضح ذلك بتفصيل الآيات إيضاحاً يدعه في أتم انكشاف في سياق معدّد للنعم مذكر بها داع إلى شكرها، فقال بعد ما دل به من الإنسان وما يليه في الشرف من الحيوان مبتدئاً بما يليهما في الشرف من النبات الذي هو قوام حياة الإنسان وما به قوام حياته من الحيوان: {هو} لا غيره مما تدعي فيه الإلهية {الذي أنزل} أي بقدرته الباهرة {من السماء} قيل: نفسها. وقيل: جهتها، وقيل: السحاب- كما هو مشاهد {ماء} أي واحداً تحسونه بالذوق والبصر {لكم منه} أي خاصة {شراب} ظاهر على وجه الأرض من العيون والأنهار والغدران وغيرها.
ولما كان أول ما يقيم الآدمي شراب اللبن الناشئ عن الماء فقدمه، أتبعه ما ينشأ منه أشرف أغذيته وهو الحيواني، فقال تعالى: {ومنه شجر} لسريانه في الأرض الواحدة واختلاطه بها، فينعقد من ذلك نبات {فيه تسيمون} أي ترعون على سبيل الإطلاق ليلاً ونهاراً ما خلق لكم من البهائم، والشجر هنا- بما أفهمته الإسامة- عام لما يبقى في الشتاء حقيقة، ولغيره مجازاً؛ قال القزاز: الشجر ما بقي له ساق في الشتاء إلى الصيف، ثم يورق، والبقل ما لا يبقى له ساق، قال الخليل: جل الشجر عظامه وما يبقى منه في الشتاء، ودقه صنفان: أحدهما تبقى له أرومة في الأرض في الشتاء، وينبت في الربيع، ومنه ما ينبت من الأرض كما تنبت البقلة، والفرق بينه وبين البقل أن الشجر يبقى له أرومة على الشتاء ولا يبقى للبقل، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أن النبات ثلاثة أقسام: شجر وهو ما يبقى في الشتاء، ولا يذهب فرعه ولا أصله، وما نبت في بزر ولم ينبت في أرومة ثابتة فهو البقل، وما نبت في أرومة- أي أصل- وكان مما يهلك فرعه وأصله في الشتاء فهو الجنبة، لأنه فارق الشجر الذي يبقى فرعه وأصله، والبقل الذي يبيد فرعه وأصله، فكان جنبة بينهما.
ولما كان الشجر عاماً، شرع سبحانه يفصله تنويعاً للنعم وتذكيراً بالتفاوت، إشارة إلى أن الفعل بالاختيار، فقال مبتدئاً بالأنفع في القوتية والائتدام والتفكه: {ينبت} أي هو سبحانه {لكم} أي خاصة {به} مع كونه واحداً في أرض واحدة {الزرع} الذي تشاهدونه من أقل الشجر مكثاً وأصغره قدراً، {والزيتون} الذي ترونه من أطول الأشجار عمراً وأعظمها قدراً.
ولما كانت المنافع كثيرة في شجر التمر، سماه باسمه فقال تعالى: {والنخيل} ولما كانت المنفعة في الكرم بغير ثمرته تافهة، قال تعالى: {والأعناب} وهما من أوسط ذلك {ومن كل الثمرات} وأما كلها فلا يكون إلا في الجنة، وهذا الذي في الأرض بعض من ذلك الكل مذكر به ومشوق إليه {إن في ذلك} أي الماء العظيم المحدث عنه وعن فروعه، أو في إنزاله على الصفة المذكورة {لآية} بينة على أن فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده.
ولما كان ذلك ممن يحس، وكان شغل الحواس بمنفعته- لقربه وسهولة ملابسته- ربما شغل عن الفكر في المراد به، فكان التفطن لدلالته يحتاج إلى فضل تأمل ودقة نظر، قال تعالى: {لقوم يتفكرون} أي في أن وحدته وكثرة ما يتفرع عنه دليل على وحدة صانعه وفعله بالاختيار، وأفرد الآية لوحدة المحدث عنه، وهو الماء- كما قال تعالى في آية {تسقى بماء واحد} [الرعد: 4] وسيأتي في آية النحل كلام الإمام أبي الحسن الحرالي في هذا.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هذه السورة في التحامها بسورة الحجر مثل الحجر بسورة إبراهيم من غير فرق، لما قال تعالى: {فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون} [الحجر: 92] وقال تعالى بعد ذلك في وعيد المستهزئين {فسوف يعلمون} أعقب هذا ببيان تعجيل الأمر فقال تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1] وزاد هذا بياناً قوله: {سبحانه وتعالى عما يشركون} فنزه سبحانه نفسه عما فاهوا به في استهزائهم وشركهم وعظيم بهتهم، وأتبع ذلك تنزيهاً وتعظيماً فقال تعالى: {خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون} ثم أتبع ذلك بذكر ابتداء خلق الإنسان وضعف جبلته {خلق الإنسان من نطفة} ثم أبلغه تعالى حداً يكون فيه الخصام والمحاجة، كل ذلك ابتلاء منه واختبار ليميز الخبيث من الطيب، وأعقب هذا بذكر بعض ألطافه في خلق الأنعام وما جعل فيها من المنافع المختلفة، وما هو سبحانه عليه من الرأفة والرحمة اللتين بهما أخر العقوبة عن مستوجبها، وهدى من لم يستحق الهداية بذاته بل كل هداية فبرأفة الخالق ورحمته، ثم أعقب ما ذكره بعد من خلق الخيل والبغال والحمير وما في ذلك كله بقوله: {ولو شاء لهداكم أجمعين} فبين أن كل الواقع من هداية وضلال خلقه وفعله، وأنه أوجد الكل من واحد، وابتدأهم ابتداء واحداً {خلق الإنسان من نطفة} فلا بعد في اختلاف غاياتهم بعد ذلك، فقد أرانا سبحانه مثال هذا الفعل ونظيره في قوله: {وهو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر- إلى قوله: لآية لقوم يتفكرون} انتهى.


ولما كان ربما قال بعض الضلال: إن هذه الأشياء مستندة إلى تأثير الأفلاك، نبه على أنها لا تصلح لذلك بكونها متغيرة فلا بد لها من قاهر أثر فيها التغير، ولا يزال الأمر كذلك إلى أن ينتهي إلى واحد قديم فاعل بالاختيار، لما تقرر من بطلان التسلسل، فقال تعالى: {وسخر لكم} أي أيها الناس لإصلاح أحوالكم {الَّيل} للسكنى {والنهار} للابتغاء؛ ثم ذكر آية النهار فقال تعالى: {والشمس} أي لمنافع اختصها بها، ثم ذكر آية الليل فقال: {والقمر} لأمور علقها به {والنجوم} أي لآيات نصبها لها، ثم نبه على تغيرها بقوله: {مسخرات} أي بأنواع التغير لما خلقها له على أوضاع دبرها {بأمره} سبباً لصلاحكم وصلاح ما به قوامكم، دلالة على وحدانيته وفعله بالاختيار، ولو شاء لأقام أسباباً غيرها أو أغنى عن الأسباب.
ولما كان أمرها مع كونه محسوساً- ليس فيه من المنافع القريبة الأمر السهلة الملابسة ما يشغل عن الفكر فيه، لم يحل أمره إلى غير مطلق العقل، إشارة إلى وضوحه وإن كان لا بد فيه من استعمال القوة المفكرة، ولأن الآثار العلوية أدل على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة، فقال: {إن في ذلك} أي التسخير العظيم {لآيات} أي كثيرة متعددة عظيمة {لقوم يعقلون} وجمع الآيات لظهور تعدادها بالتحديث عنها مفصلة.
ولما كان ما مضى موضعاً للتفكر المنتج للعلم بوحدة الصانع واختياره، وكان التفكر في ذلك مذكراً بما بعده من سر التفاوت في اللون الذي لا يمكن ضبط أصنافه على التحرير، وكان في ذلك تمام إبطال القول بتأثير الأفلاك والطبائع، لأن نسبتها إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة واحدة، قال تعالى عطفاً على الليل: {وما ذرأ} أي خلق وبث وفرق التراب والماء {لكم} أي خاصة، فاشكروه واعلموا أنه ما خصكم بهذا التدبير العظيم إلا لحكم كبيرة أجلَّها إظهار جلاله يوم الفصل {في الأرض} أي مما ذكر ومن غيره حال كونه {مختلفاً ألوانه} حتى في الورقة، الواحدة، فترى أحد وجهيها- بل بعضه- في غاية الحمرة، والآخر في غاية السواد أو الصفرة ونحو ذلك، فلو كان المؤثر موجباً بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار، فعلم قطعاً أنه إنما هو قادر مختار، ولم يذكر اختلاف الصور لأن دلالتها- لأجل اختلاف أشكال النجوم من السماء وصور الجبال والروابي والوهاد من الأرض- ليست على إبطال الطبيعة كدلالة اختلاف اللون.
ولما كان ذلك- وإن كان خارجاً عن الحد في الانتشار- واحداً من جهة كونه لوناً، وحد الآية فقال: {إن في ذلك} الذي ذرأه في هذه الحال على هذا الوجه العظيم {لآية} ولما نبه في التي قبلها على أن الأمر وصل في الوضوح إلى حد لا يحتاج معه إلى غير بديهة العقل، نبه هنا على أن ذلك معلوم طرأ عليه النسيان والغفلة، حثاً على بذل الجهد في تأمل ذلك، وإشارة إلى أن دلالته على المقصود في غاية الوضوح فقال: {لقوم يذكرون} ولو لم يمنعوا- بما أفاده الإدغام؛ والتذكر: طلب المعنى بالتفكر في متعلقه، فلا بد من حضور معنى يطلب به غيره، وقد رتب سبحانه ذلك أبدع ترتيب، فذكر الأجسام المركبة عموماً، ثم خص الحيوان، ثم مطلق الجسم النامي وهو النبات، ثم البسائط من الماء ونحوه، ثم الأعراض من الألوان.


ولما دل على قدرته واختياره سبحانه دلالة على القدرة على كل ما أخبر به لاسيما الساعة، بخلق السماوات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس، ثم ذكر بعض ما في المكشوف من الأرض المحيط به الهواء من التفاوت الدال على تفرد الصانع واختياره، وختمه باللون، أتبع ذلك بالمغمور بالماء الذي لا لون له في الحقيقة، إشارة إلى أنه ضمنه من المنافع والحيوانات التي لها من المقادير والكيفيات والأشكال والألوان البديعة التخطيط، الغريبة الصباغ- ما هو أدل من ذلك فقال: {وهو} أي لا غيره {الذي سخر البحر} أي ذلَّله وهيأه لعيش ما فيه من الحيوان وتكون الجواهر، وغير ذلك من المنافع، والمراد به السبعة الأبحر الكائنة في الربع المرتفع عن الماء، وهو المسكون من كرة الأرض المادَّة من البحر المحيط الغامر لثلاثة أرباع الأرض، فجعله بالتسخير بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به بالركوب والغوص وغيرهما {لتأكلوا منه} أي بالاصطياد وغيره من لحوم الأسماك {لحماً طرياً} لا تجد أنعم منه ولا ألين، وهو أرطب اللحوم فيسرع إليه الفساد فيبادر إلى أكله عذباً لذيذاً مع نشبه في ملح زعاق {وتستخرجوا منه} أي بجهدكم في الغوص وما يتبعه {حلية تلبسونها} أي نساؤكم، وهن بعضكم لكم، فكأن اللابس أنتم، وهي من الحجارة التي لا ترى أصلب منها ولا أصفى من اللؤلؤ وكذا من المرجان وغيره، مع نسبة هذا الصلب وذاك الطري إلى الماء، فلو أنه فاعل بطبعه لاستويا.
ولما ذكر المنافع العامة مخاطباً لهم بها، وكان المخر- وهو أن تجري السفينة مستقبلة الريح، فتشق الماء، فيسمع لجريها صوت معجب، وذلك مع الحمل الثقيل- آية عظيمة لا يتأملها إلا أرباب القلوب خص بالخطاب أعلى أولي الألباب، ومن قاربه في ابتغاء الصواب، فقال: {وترى الفلك} ولما كان النظر إلى تعداد النعم هنا أتم منه في سورة فاطر، قدم المخر في قوله: {مواخر فيه} أي جواري تشق الماء مع صوت، لتركبوها فتستدلوا- بعدم رسوبها فيه مع ميوعه ورقته وشدة لطافته- على وحدانية الإله وقدرته.
ولما علل التسخير بمنفعة البحر نفسه من الأكل وما تبعه، عطف على ذلك النفع به، فقال تعالى: {ولتبتغوا} أي تطلبوا طلباً عظيماً بركوبه {من فضله} أي الله بالتوصل بها إلى البلدان الشاسعة للمتاجر وغيرها {ولعلكم تشكرون} هذه النعم التي أنتم عاجزون عنها لولا تسخيره؛ والمخر: شق الماء عن يمين وشمال، وهو أيضاً صوت هبوب الريح إذا اشتد هبوبها، وقد ابتدئ فيه بما يغوص تارة ويطف أخرى بالاختيار، وثنى بما طبعه الرسوب، وثلث بما من طبعه الطفوف.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8